ذكرى فردوْسيّة

الجميع سيضحي ذكرى. الجميع. لا أعلم السبب الذي يدفع بالبشر للاعتقاد أنهم الاستثناء، الشاذون عن القاعدة ومحطموها. الأمر يدعو للسخرية، فالغرور الإنساني يتفوّق على ما تم منحهم إياه من عقل، فأغلب الأحيان النتيجة واضحة وضوح الحرب والدم في بلاد العرب، لا يمكن حجبها عن ذي لٌبٍّ ونظر، لكن غرورهم يواريها بسراب ينسج كونهم الإختلاف والأعجوبة.

لست أبالغ البتة، فحتى هؤلاء من سيحالفهم أي شيء غير الحظ وسيبقون جزء مما أدعوه “حياة” وأضيف له ياء الملكية في أخره لن يتبقى منهم سوى ذكراهم في فترة ما، في لحظة ما، ذكرى لن يتبقى منها بدورها سوى ومضات تعرضها الذاكرة على جدران العقل.
تطالبني “صديقتي” بأن أتوقف عن التشاؤم وأن الزمن وحده كفيل بأن يثبت خطأ ما أعتنق من معتقد. ما عدت أناقشها فقد أبلغتها بنهايتنا ولم أعد أكترث إن كانت تعي أنها واقعة لا محالة من عدمه، أو أنها تعي أن ما تدعوه هي بالتشاؤم هو خلاصة ما تجرعته من الدنيا ولا أجد فيه ما يعيب أو
يدعو للضيق، ألا يتغيّر البشر؟


ألا نفقد أجزاء منا، في كل موقف يؤلمنا، هاوية تتلقفنا، وجبل نتسلقه؟
ألا نكتسب أجزاءً جديدة بصرف النظر عن كونها إيجابية أم سلبية لكنها بدورها تساهم في تغيير ما نحن عليه اليوم كل لحظة؟ أليس كل ذلك التغيير
يجعلني “أنا” اليوم ذكرى لـ “أنا” الغد؟ إن لم يطلك تغيير فأنت ميّت يا رجل! كم أنا شاعريّ! لكنها لا تعي ذلك، ربما لأنها ليست “رجلًا”. ربما أنا أمارس عنصريتي الذكورية في هذه اللحظة وألوم جنسًا بأكمله وما يجب علي فعل ذلك. لكنها هشة، هشاشتها تثقل كاهل روحي، وعدم استيعابها لما أؤمن به يشلّني. لن أتمكن يومًا من استساغة عباراتها “الملائكية” فأنا لست ملاكا ولا قديسا، أنا بشري من لحم ودم وقهر.


لا يهم. ستدرك يومًا ما الحقيقة حين ستضحي هي الأخرى ذكرى. وسأدرك أنا الآن حجم مآساتي لاضطراري للبقاء في بيئة كهذه. بيئة تمهّد الطريق فقط لمن يعتقد بسذاجة أنه الاستثناء. “المثالية” ليست جميلة بل هي عين القبح، انسلاخ عن الجوهر البشري.


لما لا نستطيع أن نُصدِق القول ونتوقف عن رسم لوحاتٍ فردوسية لمن لم تطأ قدمه الفردوس بعد؟
لا طاقة لي بالمجادلة. يكفيني أنني قد أستيقظ غدًا وقد أضحيت ذكرى في حياة أحدهم.

 

أضف تعليق